في الديمقراطيات والتي تعتبرها الأنظمة الشمولية وأحزابها وعلى رأسها “الممانعة” البائدة منها والسائدة حاليًا، “إمبرياليات” و”رأس ماليات متوحشة” وغيرها من العبارات، تكون المراجعة والمحاسبة والمساءلة وصولًا الى المعاقبة، وسائلًا وأوراقًا تحملها الشعوب وتستعملها بوجه صناع القرار في الاستحقاقات الانتخابية والمحطات المصيرية من حروب ومعاهدات وقرارات وحتى مواقف وتصريحات، وتعاقبُ هذه الشعوب عبر الاستطلاعات والاستفتاءات والانتخابات، أي تراجُع عن قول أو فعل أو تناقض أو خرق لما ورد على الألسن وعبر الإعلام من وعود وعهود.
بالمقابل تغيب ركائز الديمقراطية وعلى رأسها المساءلة والمحاسبة وتُغَيَّب أمام تعسّف وتفرّد وإفراط نظم الممانعة من دول وأحزاب شمولية دينية ودكتاتورية كما تنساق جماهيرها الغفيرة مؤيدة مبررة غافرة “غفورة” لما ارتكب ويرتكب بحقها، من دون أن تسلك حتى أي طريق من طرق المراجعة أو المساءلة لصناع قرارها أو حتى لنفسها.
لفهم حقيقة الديمقراطية واحترام الرأي لدى صناع القرار الممانعين وانسياق وانصياع جماهيرهم الغفيرة، لن نجد أفضل من حوار جرى في مسرحية للأخوين الرحباني مع الفنان الراحل فيلمون وهبة: “أحلى ما تفلت من إيدنا الجماهير الغفورة.
ـ بيقولوا الجماهير الغفيرة
-لا الجماهير الغفورة يا إبني، الجماهير الغفورة يا غشيم. اسأل مجرب ولا تسأل حكيم. الجماهير الغفورة قد ما يعملوا معا ويبهدلوها وبيشرشحوها، بتكة بتنسى وبتغفر”.
من وحي مسرحية الأخوين الرحباني، نجد أن الخسائر التي تكبدتها جماهير الممانعة جرّاء تصرفات وقرارات أنظمة الممانعة وأحزابها وحتى حروبها مع بعضها البعض قبل حروبها مع الأعداء الآخرين التاريخيين، تناساها جمهور الممانعة وغفر لمرتكبيها، كما تناستها ونستها أحزاب الممانعة وغفرت لبعضها البعض.
نبدأ من بعض نماذج الأحزاب الممانعة “الغفورة” والتي تشكل محورًا واحدًا، تتموضع في خندق واحد حاليًا.
1 ـ في 13 آب 1985 ندد “الحزب” بجبهة الاتحاد الوطني بشتورة وهي جمعت “أمل” الى الحزب “الشيوعي” والحزب “السوري القومي الاجتماعي” ومنظمة “البعث العربي الاشتراكي” ومنظمات ناصرية متفرقة. وأنكر صفة الأحزاب المتحدة صورة وشكلًا، مع “العلمانية” صنو التعددية المارونية.. وقال إن “خيار الإسلام هو القادر وحده على إخراج لبنان من دائرة التبعية للغرب والشرق”، متهمًا إياها بمصادرة جهاد الإسلاميين في لبنان وقبولها القرارات الدولية المقرة بالكيان الصهيوني ورضوخها لـ”أهل التسوية السلمية مع إسرائيل في المنطقة”.
2 ـ في 9 حزيران 1986، اندلعت اشتباكات مسلّحة في البقاع الغربي ـ مشغرة، بين “الحزب” من جهة والحزب “السوري القومي الاجتماعي” من جهة أخرى. في 12 حزيران 1986 تمت تصفية المنفذ العام للبقاع الغربي في الحزب “السوري القومي الاجتماعي” جورج أبو مراد وناظر الإذاعة في الحزب كميل بركة بعد خطفهما في مشغرة…
وعن سبب تلك المواجهات قال نائب رئيس الحزب “السوري القومي الاجتماعي” عبدالله سعادة يومها، “إن الحزب يريد تهجير مسيحيي مشغرة، بذريعة أن البلدة تُعتبر ثغرًا بمواجهة العدو الإسرائيلي، ولذلك، فإن مقاتليه لا يأمنون على دينهم وأنفسهم، إلاّ إذا خلا لهم الموضع وانفردوا فيه”… وفي تبريرٍ لما فعله “الحزب” اعتبر الشيخ حسن طراد في اليوم نفسه، أن “ذنب مسيحيي مشغرة أنه لم يكن عندهم حسين، وكان عندنا حسين، وأنهم لم يكونوا من جماهير الإمام الخميني، بل كانوا من جماهير الصهيونية”.
3 ـ يروي الشهيد جورج حاوي، وفق حوارات مع غسان شربل – الحرب والمقاومة والحزب صفحة 56-57: “في هذه الأثناء، بدأت عمليات الاغتيال ضدنا. اغتيل خليل نعوس وهو كادر ثمين جدًا مسؤول عن بيروت في الحزب، وصحافي وأديب مناضل. ثم اغتيل مهدي عامل في وسط بيروت. في هذه الأثناء، توترت علاقتنا مع “الحزب”، وكان مركزهم في المقر السابق للسفارة الإيرانية.
أثناء هذا التوتر، استهدفت عملية انتقامية المناضل سهيل طويلة. أُخذ بيته غدرًا، وقتل هو لطيبته، لم يكن يتصور أن جيرانًا له في المبنى نفسه يعرفهم ويعرفونه يسقيهم ماء ويشرب من عندهم، يمكن أن يدخلوا منزله وهو بالبيجاما ويقتلوه. والأبشع من هذا كله الدخول الى منزل الشيخ الجليل حسين مروة الذي كان تخطى الثمانين ولم يكن قادرًا على المشي. قتل بنجاسة نادرة فلا هو مقاتل ولا شاب ولا مسلح.
هذا الأمر أدى بنا الى مواجهات سياسية وفكرية، منها أنني القيت خطابًا في مأتم سهيل طويلة وقلت فيه: حاخام هو الذي يفتي بقتل الوطنيين والشيوعيين وليس سيدًا ولا شيخًا. يدّعون الخمينية وهم براء منها وفي ظروف لبنان نحن الخمينيون وهم السافاك”.
4 ـ يقول نائب أمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم كتب في الصفحة 357 من كتابه حزب الله النهج، التجربة، المستقبل: “في هذا السياق دخلت القوات السورية الى بيروت في 24 شباط 1987 لمنع تقاتل الأحزاب فيها والتي لم يشارك الحزب في معاركها، وفي ظل أجواء من التوتّر، دخلت قوة من الجيش السوري مبنى في شارع فتح الله يتواجد فيه شباب من شبابنا في أحد الطوابق، فارتكبت مجزرة أودت بحياة 27 شهيدًا من الحزب.
أوجدت هذه الحالة مأزقًا في العلاقة، وضبط الحزب عناصره لعدم القيام بأي ردة فعل خشية التورّط في الفتنة، ومهما كان حجم الحدث، فسلوك طريق المعالجة، وإزالة أسباب التوتّر وعدم الثقة التي ولّدت حسابات خاطئة هو الأصل. وهكذا عادت الأمور الى مجراها بعد فترة مع بقاء حسرة الحدث. الى أن أطلّ حزيران 1988 وقررت القوات السورية الدخول الى الضاحية إثر أحداث “أمل – الحزب”، بعنوان الفصل بين المتقاتلين لضبط الوضع الأمني. لكن مخاوف الحزب كانت كثيرة وأبرزها التخوّف من الانحياز السوري الى جانب أمل. ما استدعى طلب قيادة الحزب اللقاء مع الرئيس السوري حافظ الاسد لأخذ الضمانات المباشرة منه”.
يتناغم مع كل ما تقدم، خطب نصرالله في تأبين “شهدائه” في مسجد الإمام الرضا إذ يقول: “سنبقى هنا، سنبقى في بيروت الغربية، سنبقى في الضاحية ولن يستطيع أحد أن يقتلعنا”.
وكان لـ”ولي الفقيه” الإيراني الدور الاساس في اقناع “حزبه” بالسكوت والمسامحة و”الغفران” على ما ورد في مانشيت صحيفة السفير تاريخ 25 شباط 1987، علمًا بأن قادة الحزب اعتبروا ما جرى “مجزرة غير مبررة”، داعين الى “محاكمة القوات السورية على فعلتها”.
5 ـ في 4 كانون الثاني 1990، أعلن نبيه بري جملته الشهيرة: “نقول إنهم قتلوا لنا من القادة باسم المقاومة أكثر مما قتلت إسرائيل ـ إسرائيل قتلت محمد سعد وخليل جرادي، وهم قتلوا داود ومحمود وحسن ومحمد حمود ومحمد جزيني قائد المقاومة، واليوم أبو جمال قائد القوات النظامية والمسؤول العسكري لحركة أمل وقائد المقاومة في آن معًا”.
في 8 كانون الأول 2016 قال الصحافي الممانع ابراهيم الأمين عبر الـ”LBCI”: “السوريون وحركة أمل لعبوا دورًا بنسبة 95% في قتل قادة المقاومة”، أما بالنسبة للجماهير الغفيرة فغني عن التذكير ما عانته من قرارات وحروب وارتكابات منذ ما قبل الحرب اللبنانية وخلالها وبعدها، إضافة الى الاجتياحين في الـ1978 والـ1982 والحروب الداخلية المذكورة آنفًا والتي دفعت الجماهير أثمانها الباهظة، من دون أن ننسى حرب 2006، وأخيرًا ولن تكون آخرًا للأسف، “المساندة الاقليمية” التي تدور رحاها على أرض الجنوب، امتدادًا الى البقاعَين وبيروت، ذات الكلفة المرتفعة بالأرواح والأملاك والاقتصاد. وكما لم يكن قبلًا، لن تكون هناك أي محاسبة أو مساءلة أو معاقبة لما تسببت به الممانعة وقادتها الزمنيين منهم والدينيين، لا في استطلاع ولا في صناديق اقتراع.
“هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسْطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ.” (متى 10: 16).
دعوة السيد المسيح في الكتاب المقدس وفي إنجيل متى ضرورية، للاستجابة لمن سبق ذكرهم من “الجماهير”، إذ هو يحثهم دائمًا على اعتماد الحكمة باجتناب البساطة الحمقاء والثقة العمياء والتهور الطائش وانتظار المستحيل من “الممانع” ذي “المزايا” المذكورة أعلاه.